اقتصاديات اليورانيوم ... بقلم : أ.د. خليفه ابوسليم -الجامعة الأردنية *

مقالات ودراسات: اقتصاديات اليورانيوم ... بقلم : أ.د. خليفه ابوسليم -الجامعة الأردنية *

تاريخ النشر: 
2024.02.14 - 3:15 pm

لاشك ان مادة اليورانيوم هي الوقود الأساس في مفاعلات الطاقة النووية المعتمدة على انشطار اليورانيوم لإنتاج الطاقة والتي تستخدم في النواحي المختلفة من الحياة. فاليورانيوم هو المكون الأساس في دورة الوقود النووي والتي تبدأ باستخراج اليورانيوم الطبيعي ومن ثم تخصيبه بإحدى الطرق المناسبة وتصنيعه على شكل قضبان وقود ومن ثم التحميل في قلب المفاعل. بعد استنزاف الوقود يتم إخراجه من المفاعل وتخزينه في الأماكن المناسبة ومعالجته واستخلاص المواد الموجودة فيه وأخطرها البلوتونيوم المستخدم في صناعة الأسلحة النووية وفي المفاعلات المعتمدة على البلوتونيوم مادة للوقود النووي.
بداية لابد من الإشارة الى ان آلية انتاج الطاقة في المفاعل النووي تختلف عنها في المولدات التقليدية المعتمدة على الوقود الأحفوري والذي يعني إتحاد كيماوي بين الكربون والأكسجين )اي الإحتراق( لإنتاج الطاقة. اما الطاقة النووية فتنتج عن انشطار اليورانيوم في المفاعل لإنتاج طاقة حرارية اضافة الى انواع اخرى من الإشعاعات النووية.
لابد من الإشارة ايضا الى ازمة الطلب المتوقعة على الطاقة حيث ان احتياطيات الوقود الأحفوري بأشكاله المختلفة بالكاد تكفي لبضع عشرات من السنوات القادمة، عدا عن المشاكل البيئية المرافقة. اما احتياطيات اليورانيوم العالمية المؤكدة او شبه المؤكدة حاليا فتتجاوز ستة ملايين طن بأسعار معتدلة واكثر من مليون ونصف طن بأسعار لاتتجاوز 260 دولارا للكيلوغرام الواحد، اضافة الى اكثر من اربعة مليارات طن متوافره في مياه المحيطات. اي ان الإحتياطي العالمي من اليورانيوم يوفر الوقود اللازم للمفاعلات العاملة لمئات السنوات. اذن المشكلة في الطاقة النووية ليست في توفرمادة اليورانيوم الطبيعي، وانما في عملية تحويل اليورانيوم الخام الى وقود نووي صالح للإستخدام في المفاعل ومايمكن ان يترتب عليها من تحديات تقنية وعلمية ورأسمالية. وفي هذا الإطار لايجب ان نتجاهل التحديات الناتجة عن وجود الوقود النووي المستنفذ، اي دورة الوقود النووي الخلفية، وكيفية التعامل معه. في هذه المقالة سأستعرض المراحل والإقتصاديات المترتبة على دورة الوقود النووي الأمامية، والتي اساسها مادة اليورانيوم، والتي تعنى بالإستكشاف والإستخلاص والتحويل والتخصيب وتصنيع الوقود.
اولاً: الإستكشاف والإستخلاص والتعدين حيث يوجد اليورانيوم الطبيعي كأحد الخامات الموجودة في الطبيعة بأحد الأشكال المعروفة والذي يتواجد بنسب متفاوته في الخام المحتوي على عنصر اليورانيوم الطبيعي. تقاس نسبة تواجد اليورانيوم بأجزاء المليون من الخام المحتوي عليه، فمثلا خام يورانيوم يحتوي على 1000 جزء من كل مليون جزء يعني ان الطن الواحد من الخام يحتوي على كيلوغرام واحد من مادة اليورانيوم الطبيعي. وتعتبر هذه النسبة منخفضة بالمقاييس العالمية حيث توجد مناجم يحتوي الطن الواحد منها على حوالي 200 كيلوغرام من اليورانيوم وهي مناجم عالية جدا بالتركيز. يتم تقسيم المناجم حسب تركيز اليورانيوم فيها من مناجم عالية جدا بالتركيز وصولاً الى مناجم منخفضة جداَ بالتركيزتصل نسبة اليورانيوم فيها الى 100 غرام في الطن الواحد من الخام. على ان نسبة اليورانيوم القابل للإنشطار وانتاج الطاقة تبلغ حوالي سبع حبات من كل الف حبة من اليورانيوم الطبيعي. اي ان الكيلوغرام الواحد من اليورانيوم الطبيعي يحتوي على حوالي سبع غرامات من اليورانيوم القابل للإنشطارفي المفاعل وانتاج الطاقة. في نهاية مرحلة الإستخلاص والتعدين يتم إنتاج مايعرف بالكعكة الصفراء والتي تحتوي على حوالي 80% من اكسيد اليورانيوم وهي المادة التي تدخل في العمليات اللاحقة لتصنيع الوقود النووي والتي تبدأ بالتحويل الى غاز فلوريد اليورانيوم. يعتمد السعر الذي تباع به الكعكة الصفراء على البورصة صعودا ونزولا حسب العرض والطلب، ولكن السعرالحالي يتراوح حول 180دولارا للكيلوغرام الواحد وهو باتجاه تصاعدي خاصة مع عودة الإهتمام بالطاقة النووية. اقتصاديات الكعكة الصفراء تعتمد على تكاليف إنتاجها والتي في معظمها عبارة عن عمليات تعدينية وكيماوية تحتاج الى آلات وموارد مائية ومواد كيماوية مستخلصة ومايرافق ذلك من تأثيرات جانبية. وتعتمد تكاليف الإنتاج وبشكل كبيرعلى كيفية تواجد الخام وعلى نسبة تركيز اليورانيوم فيه حيث تزداد التكاليف مع تدني التركيز نظرا للحاجة الى معالجة كميات كبيرة من الخام للحصول على كميات تجارية من الكعكة الصفراء. فمثلا للحصول على كيلوغرام واحد من اليورانيوم الطبيعي فاننا نحتاج الى معالجة ستة اطنان من الخام الذي يحتوي 200 جزء من اليورانيوم من كل مليون جزء من الخام. على اي حال لن تقل تكاليف انتاج الكعكة الصفراء عن 100 دولار للكيلوغرام الواحد في المناجم التي تحتوي على تراكيز منخفضة من اليورانيوم.
ثانيا: التخصيب والذي يقصد به زيادة نسبة اليورانيوم القابل للإنشطار وانتاج الطاقة على حساب اليورانيوم غير الإنشطاري. فمن المعروف ان المفاعلات النووية تعتمد في عملها على الإنشطار النووي والذي يؤدي الى انتاج طاقة حرارية واشعاعية حيث تستخدم الطاقة الحرارية لإدارة التوربينات التي تنتج الطاقة الكهربائية. وحيث ان نسبة اليورانيوم الإنشطاري الى اليورانيوم غير الإنشطاري هي حوالي سبعه بالألف فقط فإننا بحاجة الى زيادة هذه النسبة وبمايعرف بعملية التخصيب. تستخدم معظم مفاعلات الطاقة النووية التقليدية وقود بنسبة تخصيب حوالي 3-5% (منخفض التخصيب)، وأقل من 20% كنسبة تخصيب تستخدم لمفاعلات الأبحاث والتطبيقات المتعددة للأشعة الناتجة من التفاعل النووي. وهناك المفاعلات المستخدمة في إنتاج الطاقة في الأسطول البحري بمايشمل السفن والغواصات والتي تستخدم يورانيوم مخصب بنسبة قد تصل الى 60%. اما اذا زادت النسبة عن ذلك فإننا نصل الى يورانيوم مستخدم في صناعة الأسلحة النووية خاصة عند نسبة التخصيب التي تزيد عن 90%.
من الجدير ذكره ان عملية التخصيب هي عملية حساسة بالحسابات الإستراتيجية والتقنية حيث انها يمكن ان تؤدي الى انتاج اسلحة نووية، اضف الى ذلك تكاليف بناء منشآت التخصيب التي تتجاوز مئات الملايين عدا عن تكاليف التشغيل والصيانه. وللحصول على كيلوغرام واحد من اليورانيوم منخفض التخصيب لابد من معالجة حوالي ثمانية كيلوغرامات من اليورانيوم الطبيعي. اما مفاعلات البحث فيحتاج الكيلوغرام الواحد من الوقود الى معالجة حوالي ثمان وثلاثين كيلوغراما من اليورانيوم الطبيعي. يمكن ان تتم عملية التخصيب بواسطة تقنيات متنوعة منها طريقة الإنتشار الغازي القديمة، وطريقة الطرد المركزي السائدة حالياً، اضافة الى تقنيات اخرى لكنها لازالت في مرحلة التطوير ولم تدخل النطاق التجاري. علماً ان تكاليف التخصيب تستهلك حوالي 50% من تكلفة الوقود النووي. وحيث ان التخصيب هو عملية استراتيجية حساسة، هناك خطط لوضع جميع انشطة التخصيب تحت مظلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وذلك بهدف السيطرة على الأنشطة المتعلقة بالتسلح النووي. وهناك محددات على انتشار منشآت التخصيب حيث يوجد قيود مشددة على دخول شركات او دول جديدة للمجال والأمثلة على ذلك الموقف الدولي من النشاط الإيراني في التخصيب. لذلك فإن عملية التخصيب شبه محتكرة من مجموعة من الشركات الكبرى من بينها اورانو الفرنسية، روزاتوم الروسية ويورينكوالأمريكيةـاليابانية حيث تشغل هذه الشركات عدة منشآت في دول متعددة. لابد من الإشارة الى ان هناك مجموعة من الدول تشغل منشآت تخصيب بكميات قليلة تغطي جزء من الحاجة المحلية مثل البرازيل والهند والباكستان وايران.

يعتمد الإستهلاك السنوي للمفاعل من الوقود المنخفض التخصيب على قدرة المفاعل، فمثلا مفاعل بقدرة 1000 ميغاواط-كهرباء يحتاج الى حوالي 160 طن من اليورانيوم الطبيعي والتي تكلف حوالي 300 مليون دولار بالأسعار الحالية شاملا اليوراينوم الطبيعي وعملية التحويل الى غازفلوريد اليورانيوم وعملية التخصيب والصناعة على شكل قضبان وقود جاهزة للتحميل في قلب المفاعل. طبعا هذا الرقم لايشمل بناء المنشآت اللازمة والنقل والتشغيل والعمليات اللوجستية الأخرى. ولايشمل الأعمال القانونية المصاحبة كالترخيص والتأمين. كما لايجب ان ننسى ان اي مستثمر لن يقدم على بناء منشأة التخصيب اذا لم يكن هناك عقود توريد جاهزة لأن ذلك سيكون مثل من يضيع المال والجهد بغير فائدة اوعائد استثمار. على ان الإستطاعة المتوفرة حاليا من منشآت التحويل والتخصيب والصناعة على المستوى العالمي تكفي لتلبية طلب جميع المفاعلات العاملة والتي يتجاوز عددها 420 مفاعل.

ثالثاً: التصنيع والذي يقصد به تصنيع قضبان الوقود النووي الجاهز للتحميل في قلب المفاعل. تنقسم هذه العملية الى ثلاث مراحل: تحضير اوكسيد اليورانيوم من فلوريد اليورانيوم، ومن ثم تصنيع الوقود على شكل اقراص سيراميك ذات كثافة عالية ومن ثم تحميل اقراص الوقود في قضبان الوقود المعدنية والتي بدورها ترص بجانب بعضها على شكل مجمعات في قلب المفاعل. لابد من الإشارة هنا الى ان هذه العملية تحتاج الى جهد عالي من ناحية ضبط الجودة والتحكم بها والسلامة والأمان النوويين حيث تدخل التفاعلات الكيماوية والفيزيائية في مراحل تؤثر على سلامة وأمان المفاعل والبيئة المحيطة. وكذلك لابد من الإشارة الى ان قلب المفاعل والذي يضم مجمعات الوقود يعمل بضغط ودرجات حرارة عالية ولايسمح بحدوث خلل اوفشل في عمل قضبان الوقود. تسيطر على هذه الصناعة شركات عالمية تعمل في كل من الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، المانيا، الصين، وتنتج اكثر من 15000 طن من قضبان ومجمعات الوقود التي تزيد عن الحاجة السنوية للمفاعلات العاملة.
لابد من الإشارة الى ان تكاليف برامج ضبط الجودة والتحكم بها في عملية تصنيع قضبان الوقود وفي العملية المرتبطة بدورة الوقود بشكل عام تأخذ جزءاً مهماً من التكاليف والجهد الكلي حيث ان اي خطأ او فشل في العملية سيكون له آثار خطيرة. ومن الأمثلة على نتائج الإهمال في تطبيق برامج ضبط الجودة والتحكم بها في الصناعة حوادث لازالت في الأذهان مثل حادث خزان الكلور الذي سقط خلال عملية التحميل نتيجة لانقطاع الحبل الناقل في ميناء العقبة، وحادث فقدان باب طائرة البوينغ اثناء الطيران والذي اعترفت الشركة الصانعة بأنه كان نتيجة عدم وضع البراغي الضرورية وفقدان بعض السدادات من الأماكن الخاصة بغلق الأبواب خلال عملية التصنيع. فلو ان برامج السلامة وضبط الجودة والتحكم بها طبقت بدقة ماكان ذلك ليحدث.
لابد من الإشارة الى ان تكلفة الوقود النووي من بداية استخراج اليورانيوم وتحويله وتخصيبه وصناعته على شكل قضبان هي حوالي 30% من تكاليف تشغيل المفاعل السنوية، وهي نسبة منخفضة مقارنة مع تكاليف الوقود في محطات الطاقة الأحفورية.

* الكاتب استاذ في الجامعة الأردنية